علي شندب يكتب في عروبة 22: مقتل بريغوجين وتراقص الاستراتيجيات الدولية
الشمال نيوز – عامر الشعار
مقتل بريغوجين وتراقص الاستراتيجيات الدولية
علي شندب – عروبة 22
لم يترك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مطلق فرصة للشكّ بعدم وقوفه وراء مقتل بريغوجين ونائبه ديمتري أوتيكين وآخرين. قبل تمرّد بريغوجين كان بوتين حاسماً في المسامحة بكل شيء عدا الخيانة. بعد تمرّد بريغوجين شعر بوتين باهتزاز كرسي الكرملين والمسّ بهيبة موسكو، فتحدّث عن الخيانة والطعن في الظهر. ثمّة شيء من الدراماتيكية السُريالية سريعة الإيقاع، تفرض نفسها منذ تمرّد بريغوجين حتى مقتله الذي تبنّاه بوتين قبل حصوله، وربما يجهد اليوم لنفي صفتي الخيانة والغدر المزدوجة عنه.. تجاه بريغوجين أولاً، ورئيس بيلاروسيا ثانياً.
في مقال سابق لنا بعنوان “استعادة بوتين لفاغنر توازي انضمام السويد للناتو”، تحدّثنا عن “الفصل المُمرحل بين فاغنر وزعيمها بريغوجين” وعن ثنائية “بريغوتين” التي برزت قبل التمرّد واستمرت بعده، وقد لا تنتهي بمصرع أحد ضلعيها بريغوجين الذي بات أحد أقانيم روسيا وحيثيات وجدانها المستولَد من حرب اوكرانيا، ومن معركة استعادة النفوذ في افريقيا، بشهادة الكسندر دوغين المنظّر الروسي الذي أسبغ على بريغوجين دور البطولة النادرة وأنكر عنه الخيانة، كما وبشهادة بوتين نفسه الذي اعتبر بريغوجين شخصاً موهوباً رغم ارتكابه أخطاءً كثيرة.
لن نستغرق في تعداد فرضيّات أسباب انفجار طائرة بريغوجين، فربما يطول الوقت قبل فك شفرة صناديقها السوداء. ما يستوقفنا هو التوقيت السوبر استراتيجي الذي قضى به بريغوجين. فمن أبرع من بوتين في استثمار الأحداث وإخفائها، ثمّ التحكم بتوقيت إعلانها كقنبلة منزوعة الصاعق.
فبوتين الذي يُراقص حلف الناتو على مسرح أوكرانيا، أكثر من يجيد الرقص السُريالي. ولهذا خبّأ لمدة عشرين يوماً لقاء المصالحة مع بريغوجين رفقة 35 قيادياً فاغنرياً بحضور رئيس استخباراته الخارجية سيرغي ناريشكين، وأعلنه تزامناً مع انعقاد قمّة الناتو في ليتوانيا، ليطلق تشويشاً قويّاً على القمّة التي قرّرت ضمّ السويد لعضويتها بمباركة اردوغانية. وعلى إيقاع رقصة السامبا البرازيلية في جنوب افريقيا التي احتضنت قمّة البريكس الأشهر منذ تأسيسها، وحضرت فيها روح بوتين دون جسده، توالت الأنباء عن مصرع بريغوجين، الذي شاءت المصادفات القدرية وربما التوقيتات البوتينية أن يكون حدثاً قاريّاً وعالميّاً وليس روسيّاً فقط.
وفي اندماج نادر بين المصادفات القدرية والتوقيتات البوتينية، نسجّل أنّ تفجير بريغوجين تزامن مع زيارة غير مسبوقة لنائب وزير الدفاع الروسي يونس بك يفكوروف الى بنغازي حيث تباحث مع قائد الجيش الليبي خليفة حفتر في “أوجه التعاون العسكري والأمني ومحاربة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود” بحسب المتحدث باسم الجيش الليبي احمد المسماري.
زيارة يفكوروف الى بنغازي وبعدها دمشق، أتت في ظلّ تحوّلات جيوسياسية عاصفة، وعكست دلالات عميقة حول تمسّك روسيا بسوريا وليبيا أولاً، وبنفوذها الذي بنته في افريقيا ثانياً. لكنّ المتغيّر الجوهري خصوصاً بعد قمة روسيا/ افريقيا أنّ إدارة نفوذ روسيا واستراتيجياتها انتقلت الى وزارة الدفاع الروسية، وأنّ “فاغنر الجديدة” بعد إعادة هيكلتها التي أُنجزت جزئياً قبل مقتل بريغوجين، ستعمل تحت إشرافها ما يلغي ثنائية القرار ويؤمّن وحدة القيادة والسيطرة.
الأهمّ في زيارة يفكيروف الى بنغازي أنها ألغت كلاماً أشيع في بعض القنوات الدقيقة عن خضوع حفتر لضغوط أمريكية مارسها مدير وكالة المخابرات الأمريكية وليام بيرنز، ومساعدة وزير الخارجية الامريكي باربرا ليف بهدف إنخراطه في طرد فاغنر من ليبيا.
التزامن اللافت مع زيارة يفكوروف، تمثّل بإعلان “مقاومة الخُمس” غير المعروفة سابقاً والمعزّزة بحاضنة شعبية عن البدء في مواجهة ما أسمته بالاحتلال التركي لليبيا، ردّاً عمّا أثير حول تأجير حكومة عبدالحميد الدبيبة ميناء مدينة الخُمس للبحرية التركية لمدة 99 عاماً، ما دفع دبيبة للإعلان عن توسيع القاعدة وعدم تأجيرها. لكنّ الأمر الذي عصف بالدبيبة وحكومته بفعل التداعيات الخطيرة في الشارع الليبي المتمسّك بغالبيته العظمى بلفسطين وقضيتها المركزية، هو لقاء وزير خارجية “إسرائيل” إيلي كوهين بنظيرته الليبية نجلاء المنقوش في روما، ما دفع دبيبة بفعل الاعتراضات المتصاعدة شعبياً وسياسياً الى إقالة المنقوش وإحالتها للتحقيق توازياً مع غضب أمريكي من التسريب الإسرائيلي لأنّه أطاح بجهود تطبيعية كبيرة.
ثمّة من اعتبر زيارة يفكوروف نتاج المحادثات الروسية الليبية في إطار “مؤتمر موسكو الدولي الحادي عشر للأمن” نهاية أيار/ مايو، والذي مثّل فيه ليبيا مستشار الأمن القومي الليبي ابراهيم بوشناف، الأمر الذي رصدته واشنطن التي زارها بوشناف منتصف حزيران/ يونيو بدعوة من مدير مجلس الأمن القومي الأمريكي لشمال افريقيا جيريمي بيرندت. وسبق الزيارتين جولة لبوشناف في دول الساحل والصحراء عرض خلالها لقادتها رؤيته لتفعيل “منظومة أمنية” تواجه التحديات التي ضاعفتها أحداث النيجر المفتوحة على حرب مع فرنسا التي اعتبرت أن لا أهليّة لانقلابيي النيجر بطرد السفير الفرنسي وخروج القوات الفرنسية، ما دفع المجلس العسكري كإجراء أوّلي الى قطع امدادات المياه والكهرباء والغذاء عن البعثات والقواعد الفرنسية كافة، ودفع ماكرون الى تحدي الانقلابيين والتمسك ببقاء سفيره.
بعد النيجر والسودان، انتقلت عدوى الصراع المسلّح الى تشاد التي تعيش مأزقاً سياسياً متصاعداً نتيجة الإنقلاب الذي باركه الرئيس الفرنسي ماكرون وأوصل محمد ادريس ديبي الى الحكم عقب مقتل والده في مواجهة مع المعارضة المسلّحة المتحالفة مع الجيش الليبي، ويخوض “ديبي الابن” اليوم حرباً معها، وقصفها بالطيران داخل حدود ليبيا، ما دفع الجيش الليبي لتنفيذ انتشار واسع جنوبي ليبيا وعلى امتداد الحدود المتصلة مع النيجر وتشاد، ونفّذ عملية مطاردة للمعارضة التشادية المسلّحة وبعض عوائلها بمنطقة أمّ الأرانب قرب مدينة سبها، وتردّد أن هذه العملية تمت بطلب فرنسي حماية لتواجدهم الأخير في تشاد.
اذا كان “الطوارق” يشكلون المكوّن الاجتماعي الحدودي بين النيجر وجنوب ليبيا والجزائر ومالي. فإنّ “التبو” يشكلون المكوّن الاجتماعي الحدودي بين تشاد وليبيا والسودان، وفي هذا السياق يبرز دور المكوّنات الاجتماعية في الشرائط الحدودية التي استثمر فيها وعليها رسّامو الخرائط الدينوغرافية والديموغرافية.
بالعودة لمصرع بريغوجين بعد جولة افريقية، شملت بوركينا فاسو وافريقيا الوسطى ومالي، وبحسب الإعلامي النيجري عمر الأنصاري نقلاً عن خبراء الجغرافيا الطوارق، فـ “المنطقة التي ظهر فيها بريغوجين تقع في أربندا مقابل تينبكتو”. وفي هذه المنطقة التي باتت معقلاً للحركات الإسلامية المتطرفة، سجّل بريغوتين “الرسالة الأخيرة” وتضمنت أنّ فاغنر “تجعل روسيا أعظم في جميع القارات، وتجعل افريقيا أكثر حرية وسعادة”.. وفي الوقت نفسه “تخلق كوابيس لأنظمة متطرّفة مثل داعش والقاعدة “.
إنّها الرسالة التي تمثّل عقيدة بوتين الاسترالوجية التي تتواجه مع استراتيجية بايدن العشرية التي يبدو أنها قضت بإزاحة فرنسا لعدم اقتدارها وكفائتها على مواجهة فاغنر ربيبة روسيا. فلنراقب تراقص وتصادم الاستراتيجيتين من اوكرانيا الى شرق الفرات وافريقيا …