ماذا يجري في قضاء الكورة.. «تعصّب سنّي» أم ردّات فعل على إحتكار الإمتيازات الطائفية؟
الشمال نيوز – عامر الشعار

مقالة الدكتور سمير عاكوم في جريدة اللواء اللبنانية بتاريخ الخميس 16 تشرين الأول 2025 وهي بعنوان:
ماذا يجري في قضاء الكورة.. «تعصّب سنّي» أم ردّات فعل على إحتكار الإمتيازات الطائفية؟
د. سمير حسن عاكوم
في بلدٍ يُدار بالمحسوبيات لا بالمؤسسات وتُقاس فيه المواطنة بمقدار القرب من «الزعيم» باتت أيّ محاولةٍ للتنمية في لبنان مغامرة محفوفة بالمخاطر، لا تقلّ صعوبة عن الدخول في حقل ألغامٍ سياسيٍّ طائفيّ. هذه هي الخلاصة المؤلمة التي خرجت بها من زيارةٍ عادية ظاهرياً، تحوّلت إلى مرآةٍ مصغّرة لأزمة وطنٍ بأسره.
دعاني قبل أيامٍ صديق طرابلسي وُلد في أستراليا، أكاديميّ ومفكّر ومستشار حكومي أسترالي سابق، إلى مأدبة غداء في مشروعٍ ضخم لتربية الخيول العربية الأصيلة في منطقة الكورة قيد التطوير، يضم أيضاً حيوانات نادرة كالأسود والنمور. المشروع حمل اسماً يختصر الحلم «مربط المشرق العربي» حلمٌ بدأه والده الذي هاجر عام 1969 ونجح في تأسيس شركة كبيرة في أستراليا والخليج، قبل أن يقرر العودة إلى وطنه الأم ليستثمر في أرضه ويخلق فرص عملٍ لأبنائها. غير أنّ ما كان يُفترض أن يكون نموذجاً للانتماء والنجاح تحوّل إلى مواجهةٍ مفتوحة مع عقلٍ طائفيٍّ متحجّر يرى في الاستثمار بالخيول «اختراقٍ ديموغرافيٍّ» يجب محاصرته وتدميره.
فمنذ وضع قبةٍ نحاسية صغيرة على مدخل المشروع، وهي رمزٌ جماليّ مأخوذ من الطراز القوقازي لمثل هذه المشاريع وتُستخدم في الكنائس قبل المساجد، استنفرت جهات حزبية طائفيّة في المنطقة أجهزتها. تُرسل فجأة عشرات العناصر الأمنية المدججة بالسلاح، ليس للتحقق من التراخيص بل للسؤال عن «الجهة السياسية المغطّية للمشروع». وعندما أجاب الوالد الثمانيني بأنّه لا ينتمي إلى أيّ جهة، تحوّل السؤال إلى تهديدٍ مبطّن «إمّا أن تزيل القبة أو تُوقف الأعمال». وحين طالبهم بإشارة قضائية رسمية كان الجواب الصادم من قائد السرية «لا أحتاج إلى قاضي لأوقفك»!
في تلك اللحظة لم يعد الحديث عن قانون أو دولة بل عن «دولة مجهولة» لقوى تفرض إرادتها بقوة سلاح التبعيّة والإستزلام لا بالقانون والدستور. وعندما احتجّ الرجل المسنّ الذي لم يعتد هذا النمط من الإذلال في حياته بأستراليا على تعدّي القوى الأمنية على حريته، سُجّل عليه أنه «تهجّم على السلطة الأمنية» واعتُقل الساعة الثانيّة فجراً بطريقة مهينة أمام عائلته وأطفاله. هكذا تحوّل المستثمر العائد بحلمٍ تنموي إلى «مُتّهم بتهديد الأمن الوطني» فيما لا أحد تجرّأ على مساءلة الجهة التي أهانت كرامته ودمّرت مشروعه.
منذ ذلك اليوم توقف المشروع. القضاء أكد أن قرار التوقيف عن العمل غير قانوني، لكن أحداً لم يجرؤ على التنفيذ. القانون مجمّد حين تمسّ مصالح «سلطات الأمر الواقع». أما الإعلام الطائفي فاختار أن يشارك في الجريمة، فعقدت إحدى المحطات اليمينية مؤتمراً مباشراً جمعت فيه تناقض نواب المنطقة الثلاثة من دون أن يتكلف أي منهم عناء زيارة المشروع للإطلاع على واقعه، متحدّين على مطالبة الدولة «بأشدّ العقوبات ضد العائلة المعتدية»! وبـ«وقف التمدّد الإسلامي في الكورة» في قريّة مختلطة، أيّ سخريةٍ أكثر مرارةً من أن يُتَّهم مشروع لتربية الخيول بأنه تهديدٌ للوحدة الوطنية؟
لم تكن تلك الحادثة معزولة. بل هي مشهدٌ متكرّر لمسته في كلّ منطقةٍ تُصنَّف بأنها «سنية الهوى»، ففي عكار مُنع أحد الناشطين من إقامة مزرعة أسماك على الشاطئ، لتلتهم لاحقاً الأسماك أجساد أطفالها ونسائها الهاربين من الجوع في «قوارب الموت» إلى أوروبا. وفي طرابلس المدينة التي كانت تُعرف بـ«مدينة العلم والعلماء» منع الترخيص لمدينة ملاهي لأنها قد «تؤثّر سلباً» على مشاريع بلداتٍ مجاورة أكثر نفوذاً، بعد أن عُطلت المصفاة، وجُمّد مطار القليعات وأُهمل المرفأ والمعرض الدولي، وحُوّلت المدينة الصناعية إلى خرابة، ثم أُلصقت بها تهمة التطرف والإرهاب. فكيف لا يصرخ أبناؤها دفاعاً عن كرامتهم حين يُختزل مصيرهم بين الفقر والاتهام؟ أما في الجنوب فلا تختلف الصورة كثيراً. ففي كفرفالوس قامت ميليشيا حزبية يوماً باقتلاع أشجار النخيل التي كانت تزيّن أكبر مجمع جامعيّ ومستشفى بناه الرئيس الشهيد رفيق الحريري لأن رمزيتها اسلاميّة! مشروع كان يمكن أن يكون ركيزة للتنمية في صيدا وجزين. نُهب المشروع وسُرقت معدّاته ثم اشتراه فاعلون بفتات الأسعار تحت غطاء طائفيٍّ فجّ. إنها المعادلة ذاتها، التنمية إن لم تكن تحت عباءة سلطة امتيازات شعب الله المختار فهي مؤامرة. حتى في الشوف، حين اشترت جمعية بيروتية قطعة أرضٍ صغيرة لإنشاء دارٍ للمسنين تحوّل الأمر إلى حملة إعلامية عن «التهديد الديموغرافي» و«المساس بالتوازن الطائفي». إنها عقلية سادية الإمتيازات التي تتغذّى على الخوف من الآخر وتحوّل الوطن إلى مربّعات مذهبية مغلقة.
ما يجري في لبنان اليوم ليس خلافاً سياسياً عابراً بل تظهير واضح المعالم لنظام امتيازاتٍ وتحالف ميليشياوي اقتصادي طائفي أعاد إنتاج نفسه بعد الحرب تحت مسمّى «اتفاق الطائف» لكنه في الحقيقة أزاح برنامج دولة الطائف لصالح فيروس هجين ما بين نظام الإمتيازات الكولونالي والإتفاق الثلاثي المشؤوم.
النتيجة، طبقة تحتكر المال والسلطة ومناطق تُستنزف بالحرمان. وفي مواجهة هذا النظام كل صرخة احتجاج تُصنَّف «تعصباً» وكل محاولةٍ لكسر الاحتكار تُقمع بتهمة «تهديد الوحدة الوطنية».
ليس «التعصب السنّي» إذًا هو الخطر بل ردّات الفعل الطبيعية على الظلم المُمأسس. فحين يستمر الحرمان لعقود يتحوّل إلى غضبٍ والغضب إلى هويةٍ مقاومة. لكن أخطر ما يفعله هذا النظام أنه يدفع بطائفةٍ بكاملها إلى أحضان من يَعِدها بالكرامة والدفء المفقودين في وطنها ثم يلومها على خياراتها.
لقد سقط «حلف الأقليات» المشؤوم في سوريا بعدما حوّل شعبها إلى رعايا بلا حقوق، وسيسقط في لبنان حتماً في ظل دويلاتٍ طائفيةٍ متناحرة تقاسمت الدولة كما المغانم.
الطريق إلى الخلاص يبدأ من العدالة، لا عدالة الانتقام بل عدالة الإنصاف. فالدولة التي لا تحمي المستثمر ولا المزارع ولا الطالب ولا الفقير لا يمكن أن تطلب من أبنائها الولاء. العدالة ثم العدالة ثم العدالة، فهي وحدها الضامن الحقيقي لوحدة لبنان.
ولعلّ أول خطوةٍ عملية تكون في تشكيل لجنةٍ مستقلة تزور مشروع «مربط المشرق العربي» لتعتذر رسمياً لصاحبه وتعيد إطلاق المشروع تحت رعاية الدولة، فهذا ليس شأناً فردياً بل مسألة كرامة وطنية. لأنّ الاعتذار هنا ليس لشخصٍ أو لعائلة بل لمبدأ، مبدأ أن الاستثمار في الوطن ليس تهمة والانتماء لا يُقاس بالولاء الطائفي.
لقد حان الوقت لأن نفهم أن الصمت على الظلم مشاركةٌ فيه، وأن الخوف من المواجهة أخطر من المواجهة نفسها. كلّ طائفةٍ لبنانية حين تُظلم تزرع بذور التطرف داخلها. من يهمّش الشمال اليوم سيحصد غضباً غداً ومن يحتكر الدولة باسم «التوازن» يفتح الطريق نحو انهيارها الكامل. لبنان لا يُبنى بخطوط تماسٍ مذهبية بل بمشاريع إنمائية تجمع أبنائه. ما جرى في الكورة ليس حادثة بل جرس إنذار أخير. إن لم نتداركه الآن فسيتحوّل الحلم بلبنان الواحد إلى ذكرى مؤلمة في ذاكرة وطنٍ أكلته امتيازات الطوائف.
إنّها ليست دعوة إلى الغضب بل إلى الوعي. فالوطن لا يُستعاد إلّا حين يُستعاد الإنسان أولاً وحين نكسر الصمت أمام سادية سلطةٍ حوّلت العدل إلى جريمة والمواطنة إلى تهمة.