مقالات مختارة

علي شندب يكتب: إسرائيلية القدس.. وتقسيم العراق

الشمال نيوز

لم يكن اعتراف الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بـ”القدس عاصمة لإسرائيل” إرتجاليًا أو تعبيرًا عن نزوة سياسية لساكن البيت الأبيض من خارج الدولة الأمريكية العميقة، بل كان جزءًا من الاستراتيجية المُعلنة في قانون أقرّه الكونغرس عام 1995، أي بعد أربع سنوات على “مؤتمر مدريد” وأجّل الرؤساء الأمريكيون السابقون تنفيذه حتى فعلها ترامب بتاريخ 6/12/2017، وبات “الاعتراف” كأبرز عناصر “صفقة القرن” لصاحبها ترامب ومهندس تضاريسها جاريد كوشنير الذي اعتبر ومسؤولين أمريكيين بأنّ خطوة ترامب “تعكس الاعتراف بحقيقتين: الأولى، تاريخية تعتبر القدس عاصمة دينية للشعب اليهودي. والثانية، سياسية باعتبارها مقرًّا للحكومة الإسرائيلية”. وفي آذار 2019 اعترف ترامب وبحضور بنيامين نتنياهو بسيادة “إسرائيل” على مرتفعات الجولان السوري المحتل.
وفيما اعتبر أمين الأمم المتحدة انطونيو غوتيريش أن “من شأن هذا الاعتراف تقويض حلّ الدولتين”، استدعت دول عربية من أرشيفها نسخًا مطوّرة من بيانات الإدانة لاستنكار فعلة ترامب من جهة، ومنحه عقودًا مليارية من جهة ثانية، أمّا موقف المزايدة الكبير فكان للرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي “هدّد بقطع علاقات تركيا مع إسرائيل إن اعترفت واشنطن بالقدس عاصمة لإسرائيل”!
ثم تابع ترامب استراتيجيته في تصفية القضية الفلسطينية عبر “اتفاق ابراهيم” الذي وُقّع في البيت الأبيض بتاريخ 15/9/2020 بين إسرائيل والامارات والبحرين، لكن خروجه من البيت الأبيض حال دون تتويج إنجازاته بالجائزة الكبرى المتمثلة بضمّ السعودية إلى مسار التطبيع، وها هو جو بايدن يجهد في سنته الرئاسية الأخيرة كي يقطف الجائزة التي أرجأها “الطوفان” دون أن يلغيها.
مشروع أميركا الشرق أوسطي تتسيّد فيه إسرائيل وإيران المنطقة لتُطوّعا وتُخضعا دولها من باب حماية نُظُمها
إذن، يسير قطار التطبيع وتصفية القضية الفلسطينية بلا هوادة متجاوزًا القوانين الدولية والوقائع التاريخية والدينية والحضارية، متسلّحًا بصمت العرب كما طالبهم نتنياهو بعد قمّة الرياض العربية الإسلامية، وبكاسحة الألغام الأمريكية التي تزيل كل ما ومن يعترض طريقها، وقبل غزّة كانت غزوات “الربيع العربي” التي أجهزت على دول عربية بارزة وجعلتها أثرًا بعد عين، فسقط بعضها في الحضن الأمريكي وبعضها في الحضن الإيراني.
ما كان للولايات المتحدة أن تغامر في قلب حقائق التاريخ والجغرافيا والدينوغرافيا لولا اطمئنانها الاستراتيجي لسلامة مشروعها الشرق أوسطي الذي تتسيّد فيه إسرائيل وإيران المنطقة، لتُطوّعا وتُخضعا دولها من باب حماية نظمها من الأخطار المحدقة بها. وقد شجّع اندفاعة الجرّافة الأمريكية ندرة حتى حركات الاعتراض الشعبية الرافضة للتطبيع في البلاد العربية، وخلت الشوارع من المظاهرات والاعتصامات والبيانات والتجمّعات، واختفى حرق الأعلام الأمريكية والاسرائيلية، وتبخّرت دعوات المقاطعة للمنتجات التي تغذي أوردة الكيان الاسرائيلي.
وبدا المجتمع العربي في مكنوناته الصامتة جاهزًا بل ومتقبلًا لمسار التطبيع وتصفية القضية الفلسطينية إلّا عن منصّات التواصل الافتراضية التي نجح مصمّموها والمتحكمون في محتوياتها في سحب الناس من الشارع إلى الهواتف النقالة، وانتقلت فاعلية التأثير من حجم المظاهرات إلى عدد الإعجابات والتعليقات والوصول، وحلّ “النضال الإنترنيتي” الذي يمسك بمفاتيحه دهاقنة البنتاغون محلّ النضال الجماهيري في الشوارع والساحات متناسين المؤتمرات والأبحاث التي تحدثت عن الفجوة الرقمية المتناسلة من فجوات التنمية والتعليم والتطور والنهضة المرجوّة، الى أن أعادته حرب إبادة غزّة لتهدر الجماهير في عواصم ومدن العالم.
عندما طرح نتنياهو خريطته لإسرائيل والمنطقة، كان يرتكز على الانهيارات التي أصابت الوطن العربي وأوقعته في فخّ التطبيع الذي لم يكن مفهومًا عندما أقدمت عليه الخرطوم التي انقلبت على “لاءاتها الثلاث”، وقبلها لم يكن مفهومًا من الإمارات والبحرين اللتين لم تنخرطا يومًا في حرب ضد إسرائيل ولا تربطهما بها حدود.
رسائل ساخنة لطهران تنصّ على الشروع في تنفيذ قانون الكونغرس الخاص بتقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم
خريطة نتنياهو هذه كانت النسخة الإسرائيلية لممرّ بايدن (الهندي الخليجي الإسرائيلي الأوروبي) الذي كتبنا أنه “لن تكتب له الحياة إلّا فوق بحر من الأشلاء والدماء”، فقد أزال نتنياهو من تضاريسها وإحداثياتها كل ما يشير إلى جغرافية فلسطين، وهو ما يجري ترجمته حرفيًا في قطاع غزّة قتلًا وتدميرًا ممنهجًا لكل ما يمتّ للحياة بصلة، اللهم باستثناء مكامن الغاز في بحر غزّة المعروفة باسم “مارين 1″ و”مارين 2”.
إزالة تجري تحت عنوان “حق اسرائيل في الدفاع عن نفسها.. وضمان عدم تكرار 7 أكتوبر” أي تحميل “الطوفان” مسؤولية الخريطة التي جُحظت بعد استيلاد الممرّ الاقتصادي وتسبّبت مع عوامل مزمنة أبرزها الاعتداءات المتواصلة على المسجد الأقصى في “انطلاقة الطوفان” التي أقرّ بايدن باستهدافها تقويض مشروعه للمنطقة وخصوصًا التطبيع بين السعودية وإسرائيل، علّهم يحملانه مجدّدًا إلى البيت الأبيض. بهذا المعنى فالإبادة الجماعية بحقّ غزّة أرضًا وشعبًا هي عدوان أمريكي مسلّح بالفيتو الدائم في مجلس الأمن الذي سوّغ للحكومة الاسرائيلية الإعلان بلسان رئيسها رفض “حلّ الدولتين” وإقامة الدولة الفلسطينية، أي الإطاحة بأبرز الشروط السعودية للتطبيع الذي تريده إسرائيل وفق معادلة الأمن مقابل الأمن.
إزاء ثنائية الولايات المتحدة وإسرائيل، تبرز ثنائية الولايات المتحدة وإيران التي دفع تغوّلها في العواصم العربية بعض الحكومات للارتماء في أحضان التطبيع مع إسرائيل. وفيما تُبحّ الحناجر الإيرانية بهتاف “الموت لأمريكا” نهارًا، نجدها تبات في سرير الشيطان الأكبر ليلًا، وهذا ما عبّرت عنه تداعيات استهداف قاعدة “البرج 22” الأمريكية في الأردن، وتعليق “كتائب حزب الله” وبقية الفصائل عملياتها ضد القواعد الأمريكية في العراق وسوريا، بشهادة البنتاغون الذي أعرب عن تقديره للتوقف عن استهداف قواعده منذ 4 شباط الجاري، أي بعد تعليمات جنرال الحرس الثوري اسماعيل قاآني لفصائله “المقاومة عند اللزوم”.
تعليق “الفصائل العراقية” عملياتها ضد القواعد الأميركية، بحسب ما كشفته شخصية عراقية لـ”عروبة 22″، يعود لرسائل ساخنة وجهتها واشنطن لطهران عبر بغداد، تنصّ ليس على عدم انسحاب القوات الأمريكية من العراق فحسب، وإنّما على الشروع في تنفيذ قانون الكونغرس الخاص بتقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم والمقرّ بتاريخ 25/9/2007، ما يعني تصفيرًا لنفوذ طهران في بلاد الرافدين، لأنّ هذا القانون ما أقرّ إلا لينفّذ في اللحظة التي تقتضيها الاستراتيجية الأمريكية للمنطقة وفق النسخة الثانية من “سايكس بيكو” بعدما لفظت النسخة الأولى أنفاسها بشهادة إخفاقات فرنسا الماكرونية المتوالية، من أفريقيا وشرقي المتوسط إلى مؤتمر دعم الجيش اللبناني!
تبقى العين على مصر المطوّقة بأحزمة النار التي وكأنّها في بُعدها الجيوستراتيجي ما اشتعلت في غزّة إلّا لتصلها
التعليق العراقي، لم ينسحب على اندفاعة الحوثيين المتصاعدة والتي باتت تشكل تحديًا حقيقيًا للولايات المتحدة وأوروبا الذين دفعوا بأساطيلهم بحجة حماية الملاحة في البحرين الأحمر والعربي. كما لم يخفّف من وتيرة عمليات “حزب الله” الإسنادية لغزّة، رغم اتساع مروحة استهدافات إسرائيل له والتي زادت من استهدافاتها لمواقع تابعة أو موالية لإيران في دمشق وأريافها، ما يطرح السؤال حول تموضع إيران بعد بلعها تحذيراتها من اتساع الحرب، التي وسّعتها أمريكا وتدعي الحرص على عدم توسّعها!
ومن زاوية المدلهمّات المقبلة على رفح، تبقى العين على مصر المطوّقة بأحزمة النار التي وكأنّها في بُعدها الجيوستراتيجي ما اشتعلت في غزّة إلّا لتصلها. تمامًا كما تبقى العين على القدس والضفة الغربية حيث تتبدّى مؤشرات اندلاع انتفاضة ثالثة مستولدة من آلام الطوفان التي ضاعفتها تصريحات وزير خارجية مصر المفاجئة في مؤتمر ميونخ الأمني حول “الإجماع الفلسطيني”، خصوصًا بعد ملحمة جنوب أفريقيا في لاهاي، ومواقف البرازيل المجرِّمة لإسرائيل بالابادة الجماعية للفلسطينيين.
رابط المقال في عروبة22 :

https://ourouba22.com/article/2102

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى